نكتشف الإرث الغني لدار الأزياء الفرنسية الراقية، شانيل، حيث نعود إلى جذورها في متجر قبعات كوكو شانيل المتواضع لنصل إلى مكانتها اليوم كواحدة من رموز الموضة العالمية الراسخة
في عالم الموضة سريع التطور، حيث تومض الاتجاهات وتتلاشى الأنماط، تتألق شانيل كرمز دائم للموضة الراقية وعلامة تجارية خالدة لم تتحدَ المد والجزر في عالم الموضة، بل ازدهرت كذلك لأكثر من قرن من الزمان. لا يزال إرثها باقياً مثل إرث مؤسستها، غابرييل بونور شانيل، التي تربعت على عرش الأزياء الراقية الباريسية لعقود من الزمن والتي يتردد صدى تأثيرها بقوة في جميع أنحاء عالم الموضة حتى في يومنا هذا. نتعرف على رحلة هذه الدار منذ بداياتها المتواضعة وحتى تأسيس إحدى أقوى دور الأزياء وأكثرها شهرة في العالم. قصة تعتبر عن روح الابتكار والمرونة والتفاني الذي لا يتزعزع في عالم الأناقة.
وُلدت كوكو شانيل في سومور بفرنسا عام 1883، وخطت خطواتها الأولى في عالم الموضة بافتتاح متجر للقبعات يحمل اسم "شانيل مودز" في 21 شارع كامبون في باريس، والذي سرعان ما تحول إلى ملاذ لنجمات السينما الشهيرات في تلك الحقبة، اللاتي انبهرن ببساطة وأناقة تصميماتها.
استمر صعود العلامة التجارية مع افتتاح أول بوتيك لشانيل في دوفيل عام 1913، حيث قدمت كوكو مجموعة من الملابس الرياضية المصنوعة من الجيرسيه - وهي مادة كانت تقتصر في السابق على الملابس الرجالية فقط. أثبتت هذه الخطوة نجاحها الفوري وأحدثت ثورة في علاقة النساء بأجسادهن.
بعد تذوقها طعم النجاح لأول مرة، قامت كوكو بافتتاح دار الأزياء الراقية الخاصة بها في بياريتز عام 1915، ووظفت 300 عامل لبث الحياة في تصميمات مجموعتها الأولى من الأزياء الراقية. وفي العقد نفسه، اشترت المبنى الواقع في 31 شارع كامبون وأنشأت داراً أخرى للأزياء الراقية هناك – والتي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
واحدة من أكبر المعالم التي حققتها العلامة التجارية حتى الآن جاءت في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، عندما تم طرح عطر شانيل نمبر 5 في عام 1921 - وهو العطر الذي أصبح مرادفاً للأناقة والرفاهية. وبالتعاون مع صانع العطور إرنست بو، أطلقت كوكو عطر شانيل نمبر 22 بعد فترة وجيزة، م كإشارة إلى سنة إنشاء العطر عام 1922. كان العطر مستوحى من نفس الروح الثورية التي ميزت عطرها الأول، حيث حمل نفحات من رائحة الزهور ومسك الروم.
في عام 1924 دخلت شانيل عالم مستحضرات التجميل إيذاناً ببداية إمبراطورية الجمال. وفي العام نفسه، كشفت كوكو عن بدلاتها المميزة من التويد، والتي تميزت بإضافة لمسة أنثوية للقماش الرجالي التقليدي، لتمنح المرأة العصرية مظهراً جديداً ومميزاً.
وبعد ذلك بعامين فقط وبالتحديد في عام 1926، قدمت فستان "فورد" أو أول "فستان أسود صغير" في العالم - وهو تصميم جريء وبسيط أسر عشاق الموضة في جميع أنحاء العالم. أطلقت عليه مجلة فوغ الأمريكية اسم "الفستان الذي سيرتديه العالم كله"، والذي لا يزال خالداً حتى يومنا هذا. عرض الفستان لأول مرة بأكمام طويلة وخصر منسدل، تزينه سلسلة واحدة من اللؤلؤ، وهو الأسلوب الذي ميز دار شانيل، ولا يزال يلهم المصممين في يومنا هذا.
منذ تلك اللحظة، لم يكن هناك قوة يمكنها أن توقع شانيل عن الإبداع، ومع انتشارها عالمياً وصلت كوكو إلى هوليوود عام 1931 في مهمة لتصميم ملابس لنجمات الشاشة الفضية - وهي الخطوة التي عززت تأثيرها في عالم السحر. وللاستفادة من هذه الموجة من النجاح، قدمت العلامة التجارية مجموعة المجوهرات الراقية الوحيدة من كوكو "بيجو دي ديامانتس" والمكونة من أكثر من 45 قطعة من المجوهرات.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وتأثر صناعة الموضة، برزت مرونة شانيل، فعلى الرغم من عمليات الإغلاق والتحديات، ظل الطلب على العطور والإكسسوارات مرتفعاً. من بين المباني الخمسة في شارع كامبون، لم يبق سوى متجر 31 في شارع كامبون مفتوحاً، حيث عادة ما كان يظهر الجنود الأمريكيون، الذين يبحثون عن هدايا لأحبائهم وبشكل خاص عطر نمبر 5.
في حقبة ما بعد الحرب وهي في 71 عاماً، قررت كوكو العودة بقوة من خلال إعادة افتتاح دار الأزياء الراقية الخاصة بها في عام 1954، من خلال عرض أزياء لاقى استحساناً كبيراً من قبل الصحافة العالمية. كان التصميم الأول في مجموعتها عبارة عن طقم جيرسيه يحمل الرقم 5. واستمرت شهرتها في كسر الحواجز، حيث ظهرت أكثر النساء تأثيراً في تلك الحقبة مثل إليزابيث تايلور، وجين فوندا، وجاكي كينيدي، ورومي شنايدر، وجين مورو، وهن يرتديّن تصاميم شانيل.
شهد عام 1955 ميلاد أسطورة أخرى، وهي حقيبة شانيل 2.55 الأيقونة، والتي تميزت بالجلد المبطن وسلسلة ذهبية، محاكية بشكل دائم جوهر العلامة التجارية. وفي العقد نفسه، قدمت الدار أول عطر للرجال، وظهرت بدلة التويد المزخرفة الرمزية للنساء لأول مرة، كما تم إطلاق الأحذية ذات الكعب العالي المميزة باللونين مع أطراف سوداء.
رحيل كوكو شانيل في عام 1971 كان بمثابة نهاية حقبة، لكن مجموعتها التي صدرت بعد وفاتها لاقت صدىً لدى محبيها من مختلف أنحاء العالم. وقد نُقل عنها قولها الشهير: "ليت أسطورتي تستمر وتزدهر. أتمنى لها حياة طويلة وسعيدة".
كان عام 1978 عاماً حاسماً في تاريخ العلامة التجارية، حيث احتضنت لأول مرة الملابس الجاهزة، ووسعت بصمتها العالمية. وفي عام 1983 بزغ فجر حقبة جديدة مع تعيين كارل لاغرفيلد مديراً فنياً. ضخ لاغرفيلد طاقة جديدة في الدار، وجدد الملابس الجاهزة وحوّل شعار 'CC’ إلى أيقونة الدار. استمرت العلامة التجارية في التطور تحت قيادته، حيث قدمت إكسسوارات جديدة مثل الساعات واستحوذت على شركات متخصصة لحماية الحرفية الباريسية الكلاسيكية.
ظلت شانيل ثابتة في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. وكانت وفاة كارل لاغرفيلد في عام 2019 بمثابة لحظة مؤثرة، لكن العلامة التجارية انتقلت بسلاسة مع تولي فيرجيني فيارد القيادة. حتى الوباء العالمي في عام 2020 لم يتمكن من ردع شانيل، حيث واصلت الحفاظ على تقاليدها مع التكيف مع الوضع الجديد.
قامت شركة التجزئة الفرنسية الفاخرة مؤخراً بتعيين لينا ناير على رأسها - أول رئيس تنفيذي عالمي من أصل هندي للعلامة التجارية وثاني سيدة تتولى هذا المنصب في تاريخ الدار الممتد 113 عاماً (على خطى مورين تشيكيت التي عُينت كرئيسة تنفيذية عالمية في عام 2007).
أمضت لينا ناير، البالغة من العمر 53 عاماً وحديثة العهد في صناعة الأزياء، ثلاثة عقود في شركة يونيليفر العملاقة للسلع الاستهلاكية، قبل تعيينها من قبل شانيل لقيادة دار الأزياء الفاخرة. وقد نال تعيينها استحساناً واسع النطاق ليس فقط للعلامة التجارية ولكن أيضاً للاحتفال بانتصارها الشخصي. في مقابلة أجريت مؤخراً، شاركت ناير تجربتها في التغلب على توقعات المجتمع، وتذكرت الحالات التي قيل لها فيها إنها لا تستطيع تحقيق أشياء معينة بسبب جنسها. لكنها أكدت على ضرورة عدم الاستماع لمثل هذه الأقوال، وأشارت قائلة: "لقد كنت الأولى في كل وظيفة قمت بها. أول امرأة، وأول شخص ببشرة سمراء، وأول آسيوي، وأول هندي - لكنني لا أريد أن أكون الأخيرة، وسأحاول أن أجعل الأمر أسهل لمن يأتون بعدي."